معروضات جمعت من متاحف عالمية في باريس

بعد النجاح الكبير الذي حققه معرض الحضارة الفرعونية السنة الفائتة، يقدم معهد العالم العربي في باريس معرضاً ضخماً عن الحضارة العلمية الاسلامية والعربية تحت عنوان «العلوم العربية في عصرها الذهبي» وقد أشرف على تنظيمه مدير المتحف والمعارض في المعهد الباحث ابراهيم علوي.






وتكمن اهمية هذا المعرض إضافة الى محتوياته القيمة والصورة التي يشكلها عن العلوم العربية، في كونه يلقي الضوء على التاريخ الحضاري المشرق الذي عرفه العالم الإسلامي والعربي.

افتتح مساء أول من أمس في معهد العالم العربي (باريس) معرض ضخم يتوق إلى إظهار مختلف جوانب التطور المذهل الذي عرفته العلوم في الحقبة التي يُتفق على تسميتها بالعصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، أي من القرن الثامن وحتى القرن الخامس عشر ميلادي. ولهذه الغاية، يكشف المعرض عن نحو مئتي قطعة فنية وعلمية تم استعارتها من عشرات المتاحف والمؤسسات العلمية الغربية والعربية لتشكيلها شهادات يتعذر دحضها على تلك الحقبة المجيدة من التاريخ العربي والإسلامي.

وفعلاً يتبيّن للمتجول في أرجاء المعرض، إن من خلال القطع المعروضة أو عبر طريقة ترتيبها المثيرة، كيف أن حضارة الإسلام ستتناول كل فروع المعرفة الفكرية والتقنية وتحقق فيها اكتشافات مهمة. فبعد دراسة مختلف العلوم التي كانت ممارسة في الحضارات السابقة ومستوعبة، قام علماء الإسلام بتطويرها عبر اعتمادهم الاختبار العلمي ومباشرتهم في دراسة مواضيع وتقنيات بقيت مجهولة في الغرب لفترة طويلة. ومن الأسباب التي أدت إلى هذا الغليان العلمي، انتشار اللغة العربية واعتمادها في العالم الإسلامي، ازدهار هذه المنطقة وامتدادها الجغرافي الشاسع (من أسبانيا إلى الهند) ورعاية الخلفاء والأمراء للعلوم والفنون، وأجواء الانفتاح والتسامح وحرية التفكير التي كانت رائجة طوال تلك الحقبة. ولتسهيل زيارة المعرض وتيسير عملية استيعاب العدد الهائل من المعطيات العلمية والتاريخية التي يعجّ بها، تم تقسيمه إلى أربعة أجزاء.

الجزء الأول (أو المدخل) يستحضر إسهامات الحضارات القديمة في نشأة العلوم العربية، كالحضارة الإغريقية (بطليموس وغاليينوس وهيباركوس وأوقليدوس وأرخميدوس، الخ.) والآشورية والبابلية والفارسية والهندية، قبل أن يقارب الميدان الذي يتبادر مباشرة إلى ذهننا حين نفكّر في إسهام العلماء العرب في تطوير العلوم الأوروبية: الرياضيات. ويُشكّل هذا الميدان رمز العصر الذهبي للحضارة العربية الذي تم خلاله ابتكار نظام الترقيم المستخدم اليوم في كل أنحاء العالم وإدخال رقم «صفر» عليه، وتأسيس علمَي الجبر وحساب المثلثات. ويكشف المعرض في هذا السياق مخطوطات عربية في علمَي الهندسة والجبر وترجمات عربية لنصوص رياضية إغريقية.

ويتناول الجزء الثاني من المعرض الذي يحمل عنوان «السماء والعالم»، الممارسات التي سمحت للعلماء العرب بمراقبة السماء والأرض ووصفهما وتفسيرهما على أساس قياسات علمية. وعلم الفلك هو من أكثر الميادين التي استكشفها العرب. وقبل الإسلام، لم يقم هؤلاء بمقاربة منهجية لهذا الميدان فتميّزت ملاحظاتهم بالبساطة والبدائية. ولكن انطلاقاً من القرن التاسع، تملك العلماء العرب معطيات فلكية موروثة من الإغريق والفرس وألقوا عليها نظرة نقدية قبل أن يقوموا بإغناء هذا الإرث عبر مقاربة نظرية مثيرة ولكن أيضاً عبر مراقبة منتظمة لحركة الكواكب والنجوم. وشجّع الحكّام هذه الأبحاث لقدرتها على حل المسائل التي تتعلق بممارسة الدين الإسلامي: تحديد أوقات الصلوات اليومية، وضع التقويم القمري الذي يسمح في معرفة بداية أو نهاية شهر رمضان المبارك. ويتناول هذا الجزء من المعرض أيضاً علم الخرائط الذي يرتبط بالحاجة إلى الاستدلال داخل الفضاء الجغرافي. ومنذ البداية، ميّز العرب بين الجغرافيا الرياضية التي اهتم بها علماء الفلك والجغرافيا الوصفية التي غايتها تحديد الأمكنة والطرق على الأرض انطلاقاً من ملاحظات ومعالم معينة، الأمر الذي لم يمنعها من أن تكون أحياناً جد دقيقة. وإحدى ضرورات الديانة الإسلامية هي معرفة وجهة القبلة في مكة المكرّمة (إن للصلاة أم لتشييد الجوامع) من أي مكان في العالم الإسلامي. ولهذه الغاية، تم ابتكار أدوات علمية دقيقة. ويسمح لنا هذا الجزء من المعرض بتأمّل عدد من آلات الإسطرلاب والرُبعيات والكريات السماوية والزيجات والساعات الشمسية والمخطوطات الخاصة بعلم الفلك والمنمنمات التي تمثّل طريقة استخدام الآلات الفلكية لتحديد الزمن أو الطالع الفلكي، إضافة إلى خرائط جغرافية للكون أو لبعض مناطق العالم الإسلامي.

ويقارب الجزء الثالث من المعرض المعارف العربية التي تتعلق بالإنسان ككائن بشري وبالبيئة التي يعيش فيها وبالتقنيات المبتكرة لمختلف حاجاته الجسدية والاجتماعية. فالطب العربي، على سبيل المثل، ارتكز أولاً الى المعارف الهندية والفارسية وبخاصة الإغريقية قبل أن يشهد تطوراً كبيراً بفضل إسهامات علماء كبار مثل الرازي وابن سينا وابن الجزّار. وجاءت اكتشافات هؤلاء العلماء نتيجة تمكّنهم من الجوانب النظرية لهذا العلم وحسّهم العالي في الملاحظة. وسيبقى كتاب ابن سينا «قانون الطب» المرجع الأساسي لهذا العلم لفترة طويلة إن في الشرق أم في الغرب. وسعى الطب آنذاك إلى معالجة عدد من الأمراض وإلى تأمين صحة جيدة للمرضى من خلال عمله على تحسين الظروف الصحية والغذائية. وتشهد المخطوطات والأدوات المستخدمة المعروضة على الممارسات الجراحية التي كانت تدرّس آنذاك، والتي نجدها في كتاب الزهراوي (القرن التاسع). وتجدر الإشارة أيضاً إلى انتشار المستشفيات التي كانت تُستخدم كأماكن للمعالجة وكمراكز للتدريب. أما دستور الصيدلة الحاضر في المعرض من خلال مخطوطات ثمينة فكان مرتبطاً أيضاً بعلم الطب. وشكّلت دراسة النباتات المصدر الرئيس لصناعة الأدوية. وقد ساعدت الجغرافيا الفسيحة والمتنوعة للعالم الإسلامي على توفير عدد كبير من النباتات التي تدخل في صناعة العقاقير وعلى انتشارها في كل أرجائه. وعلى صعيد آخر، سمحت دراسة البيئة للمهندسين العرب باستثمار الموارد الطبيعية الضرورية في حياة الإنسان اليومية. فإلى علم النبات، شهد العالم الإسلامي تطوّر أنظمة الري وصناعة الطواحين، مع الاهتمام بعلم الحيوان وطبه.

أما القسم الرابع والأخير فيُعنى بإبراز العلاقات التي كانت قائمة في العالم الإسلامي بين العلوم وعدد من النشاطات الفنية. فعلى سبيل المثل، استفاد فني الهندسة والزخرفة في شكل رئيسي من المعارف العربية في علم الرياضيات. إذ استعان المهندسون العرب بعلم الهندسة لتشييد المنازل والقصور والمدن ولابتكار عناصر زخرفية رائعة داخل نطاق التبليط وكسو الجدران بالفسيفساء. وكذلك الأمر بالنسبة إلى فن التخطيط الذي استفاد من علم الرياضيات من خلال نظرية الأبعاد. ويتوقف المعرض أيضاً عند الآلات الذاتية الحركة التي عرفت نجاحاً باهراً في العالم العربي منذ القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر. وهدف هذه الآلات المعقّدة كان إظهار البراعة التكنولوجية والجمالية لمصمميها. والجزّاري هو من دون شك أهم مصمم لهذه الآلات التي ولع الحكّام العرب بها. ولعل هذا ما دفعه إلى كتابة بحث نظري وتطبيقي حولها عام 1206. والموسيقى هي من الميادين التي استفادت أيضاً من تطوّر العلوم، على رغم جهل معظم الناس لهذا الأمر حتى اليوم. فالنظريات والمقامات الموسيقية التي ابتُكرت في العالم العربي لها علاقة وثيقة بعلمَي الرياضيات والفلك، واستخدم العرب الموسيقى أيضاً لمنافعها العلاجية. ونشاهد في هذا القسم من المعرض ألواحاً من مادة السيراميك تحمل زخرفات هندسية معقدة، وكتابات تخطيطية متنوعة، وآلات موسيقية قديمة، وتدويناً موسيقياً عربياً، إضافة إلى آلتين ذاتيتي الحركة.